يناير (كانون الثاني) 1977 اندلعت الانتفاضة في شوارع مصر، سمّاها الشعب «انتفاضة الخبز»، واعتبرها النظام «ثورة حرامية»، وفي مارس (آذار) 2017 كانت البلاد على موعد مع مظاهرات أخرى سارع الكثيرون إلى تسميتها بانتفاضة التموين أو انتفاضة الخبز، وامتلأت الشبكات الاجتماعية بعبارات الحنين إلى الأمس الذي اندفع فيه الشعب إلى الشوارع مناديًا بحريته وكرامته ومدافعًا عن لقمة عيشه.
فماذا حدث بالأمس، وماذا يجري اليوم، وما أوجه الشبه والاختلاف بين الحالتين؟ هذا ما تحاول السطور التالية الإجابة عليه.
انتفاضة الخبز 1977: نظام السادات على شفا حفرة من السقوط
مساء يوم 17 يناير (كانون الثاني) 1977، وفي ليلة بدت هادئة تمامًا، يقف نائب رئيس الوزراء المصري ورئيس المجموعة الاقتصادية «عبد المنعم القيسوني» أمام مجلس الشعب، معلنًا أن الحكومة بصدد اتخاذ إجراءات «حاسمة وضرورية» لمواجهة الأزمة الاقتصادية التي تضرب البلاد.
كانت تلك القرارات الحاسمة تعني ببساطة أن الحكومة تلقي بالكرة في ملعب الشعب، ليتحمل هو أعباء الأزمة، سيدفع الفقراء ما عجز النظام عن دفعه، إذ تقرر زيادة أسعار الخبز والسجائر والبنزين والبوتاجاز والسكر والدقيق الفاخر والذرة والسمسم والحلاوة الطحينية والفاصوليا واللحوم المذبوحة والشاي والأرز والمنسوجات والملبوسات بنسب تتراوح ما بين 30% إلى 50%.
لم يكن هدوء تلك الليلة سوى الهدوء الذي يسبق العاصفة، انتشرت الأنباء بين العمال وفي صفوف الطبقات المسحوقة، وانتشر الغضب بين الجماهير انتشار النار في الهشيم، وفي غضون ساعات قليلة امتلأت شوارع العاصمة والمحافظات بحشود من الغاضبين، كان القوام الرئيسي لها من العمال والطلاب، قبل أن ينضم إليهم عناصر من العاطلين والحرفيين وحديثي الهجرة من الريف وفقراء الأحياء الشعبية، وبحلول المساء، كان الغضب قد اتخذ صورة أكثر عنفًا.
عجزت قوات الأمن – رغم المحاولات – عن التصدي للمظاهرات، وبدأت الجموع الشعبية التي تزداد عددًا في توجيه غضبها بشكل أكثر حدة نحو رموز السلطة – جرى الهجوم على بعض المباني الحكومية وأقسام الشرطة – وتعرضت بعض المحال التجارية والفنادق والسيارات، التي رأى فيها المتظاهرون مظهرًا للبذخ والاستعلاء الطبقى، للتخريب أو الرشق بالحجارة.
استمرت المظاهرات على مدار يومي 18 و 19 يناير (كانون الثاني)، وفي النهاية، اضطرت السلطة الساداتية إلى الاستعانة بقوات الجيش لاستعادة السيطرة على الشارع، ولكن بعد أن أُجبرت على الاستجابة لمطالب الجماهير وإلغاء قراراتها السابقة.
كانت قرارات يناير (كانون الثاني) محاولة من السلطة المصرية للاندماج بشكل سريع في السوق الدولية، والتخلي عن الأعباء المجتمعية التي ورثتها من حكم عبد الناصر، وإن كانت انتفاضة يناير – التي عرفت بعد ذلك بانتفاضة الخبز، وسماها السادات باسم «انتفاضة الحرامية» – قد أدت إلى إبطاء وتيرة ذلك التحول الاقتصادي، فإنها قد فشلت في التطور إلى حركة جماهيرية أكبر، تبلور خطابًا أكثر وضوحا تجاه السلطة، وتحمل هموم الطبقات الكادحة في مواجهة البرجوازية المصرية الصاعدة والتي لا تمل بين الحين والآخر من التكشير عن أنيابها.
2017: انتفاضة الخبز «كلاكيت تاني مرة»
بداية الأحداث الحالية جاءت شبيهة بأحداث 77 إلى حد ما، فلم يكد وزير التموين المصري «علي مصيلحي» يتسلم مهام منصبه كوزير للتموين في الحكومة الحالية، حتى أصدر قرارًا بوقف العمل بالبطاقات الورقية، وتخفيض عدد أرغفة «الكارت الذهبي» لأصحاب المخابز لـ 500 رغيف يوميًا، بدلًا من 15000، مع شائعات – جرى نفيها لاحقًا – عن نية الحكومة تخفيض نصيب الفرد من خمس إلى ثلاثة أرغفة يوميًا.
تسبب الأمر في حدوث مشاجرات بين العديد من المواطنين وأصحاب المخابز في المحافظات، واتهام «المخابز» بالامتناع عن تسليم المواطنين الحصص اليومية للخبز، وحتى لحظة كتابة هذه السطور، فقد شهدت أربع محافظات مصرية مظاهرات شعبية غاضبة منددة بالقرار، وسط هتافات «عايزين عيش»، وطالب بعضها بإقالة وزير التموين، كما وجه البعض فيها هجومًا مباشرًا على الرئيس المصري «عبد الفتاح السيسي» في مشهد نادر على الساحة السياسية المصرية المغلفة بغطاء من القمع الشديد.
في الحقيقة، فإن قرار وزير التموين المصري قد جاء متوافقًا تمامًا مع توجه النظام المصري الحالي، فيما يتعلق بالمسألة الاقتصادية والرؤية العامة حول المدى الذي يجب أن يذهب إليه التزام الدولة الاجتماعي حيال مواطنيها، أو ما يمكن أن نعبر عنه بإعادة النظر في كل برامج «الرفاه الاجتماعي» التي شكلت حجر الأساس في العلاقة بين المجتمع والدولة منذ يوليو (تموز) 1952 وحتى اليوم.
حفلت السنوات السابقة بالكثير من الإشارات التي تؤكد عزم الدولة الصارم على التخلي عن «عبء» المجتمع، تم تخفيض الدعم على المنتجات البترولية والكهرباء مرارًا، مع تصريح بنية إلغائه تمامًا في غضون خمس سنوات، كما أشارت تقارير إلى رغبة النظام في تقليل الإنفاق على التعليم الحكومي، وربطه بالدرجات التي يحصل عليها الطالب، وفيما تحدثت تقارير عن المخاوف من التوجه نحو خصخصة القطاع الصحي، لم تتحرج وزيرة التضامن الاجتماعي غادة والي من التصريح بأن الحكومة «لم تعد قادرة على تحمل أموال المعاشات»، كل تلك الإشارات وغيرها، تشير في نظر البعض إلى «النية المبيتة» لدى النظام المصري بالتخلي عن مسؤوليته التاريخية تجاه ضمان الحد الأدنى من الخدمات والمعيشة الكريمة لمواطنيه.
ما أشبه الليلة بالبارحة: أوجه التشابه والاختلاف بين يناير 77 ومارس 2017
أثناء افتتاحه مجمعًا للبتروكيماويات في 13 أغسطس (آب) 2016، أشاد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بما وصفه بـ«محاولة الإصلاح الحقيقية» للرئيس الراحل محمد أنور السادات عام 19777 قبل انتفاضة الخبز، مضيفًا: «لما حصل عدم قبول من الناس لده تراجعت الدولة، وفضلت تأجيل الاصلاح لحد دلوقتي تراجعوا وتحسبوا من الإصلاح».
لم تكن تلك هي المرة الأولى التي يُبدي فيها السيسي إعجابه بـ«المحاولة الساداتية»، وتحسّره على فشلها، والرغبة في استنساخها، فإبان عمله كوزير للدفاع وقبل ترشحه للرئاسة، تحدث في تسجيل مسرب عن ضرورة «رفع الدعم عن السلع في مصر وحصول المواطن على السلع بسعرها الحقيقي، وذلك بهدف حل أزمة عجز الميزانية العامة المتواصلة منذ سنوات»، مستشهدًا في ذلك بتجارب دول أخرى خفّضت فيها رواتب المواطنين دون أن يؤدي ذلك إلى اعتراضات شعبية.
تدفعنا تلك الإحالة المتكررة لانتفاضة 77 في خطاب المسؤولين والإعلاميين المصريين حاليًا، إلى عقد مقارنة بين الظروف والملابسات بين الماضي والحاضر، لنتمكن من خلالها استشراف المدى الذي يمكن أن تذهب إليه الاحتجاجات الحالية ضد الممارسات الاقتصادية للسلطة في مصر.
ثمة أوجه للشبه بين انتفاضة يناير (كانون الثاني) 1977، والمظاهرات الحالية، ففي حين أن كلا منهما قد اندلع اعتراضًا على قرار اقتصادي بعينه – رفع أسعار السلع، أو قرار التموين تخفيض حصة الكارت الذهبي من الخبز – فإنها كانت نتيجة لسلسلة من التراكمات الاقتصادية والإحباطات التي عصفت بالطبقات الوسطى والدنيا في البلاد بشكل يجعل من الأجواء الشعبية ساحة ممتلئة بالغضب والترقب وممهدة للانفجار، ويُمكّن لأي قرار اقتصادي «متهور» في نظر الجموع – مهما بدت عدم أهميته – أن يصبح حينها «القشة التي تقصم ظهر البعير».
وفي كلتا الحالتين، يناير (كانون الثاني) 1977 ومارس (آذار) 2017، يبدو العامل الدولي حاضرًا، ففي حين أعلنت سلطة السادات أن قراراتها قد جاءت تحت ضغط صندوق النقد والبنك الدوليين، فإن قرارات النظام المصري الحالية يتم تبريرها دومًا بأنها ضمن شروط صندوق النقد الدولي، التي يجب على الحكومة الالتزام بها للحصول على القرض الذي تعتبره «طوق النجاة» شبه الوحيد لاقتصادها المتهاوي.
وكما جاءت انتفاضة الخبز 77 في ظل ضعف واضح للمعارضة المصرية، سواء الأحزاب أو القوى العمالية التي كانت إما هشة تمامًا، أو مدجنة ومؤمّمة بالكامل من قبل السلطة، وهو ما أدى إلى فشل المعارضة في استيعاب اللحظة التاريخية، وعجزت عن استغلال حراك الجماهير وتحويله إلى حالة شعبية عامة قادرة على تحدي السلطة، تجيئ احتجاجات اليوم والمعارضة في حالة ربما شبيهة للغاية، فهي إما مطاردة خارج البلاد، أو مشغولة بصراعاتها الداخلية والأيديولوجية التي تعوقها عن التوحد أو لعب دور سياسي فعال في لحظات مفصلية كهذه.
أما أوجه الاختلاف بين الحالتين، فأهمها الفروقات في طبيعة الحالة المجتمعية والظرف السياسي بين الحالتين، فقد نجح النظام المصري الحالي في نظر العديد من المراقبين في اختزان ما يمكن وصفه بـ«ذاكرة العنف» في العقل الجمعي المصري، إذ أن صور الأعداد الكبيرة من القتلى الذين قضوا برصاص قوات الأمن في المظاهرات والاعتصامات المختلفة، لا تزال ماثلة في الأذهان، ومعبرة عن استعداد السلطة للبطش بالمحتجين متى تجاوز تهديدهم الحد المسموح به.
كل ذلك مدعوم بظرف دولي يعطي الضوء الأخضر للرئيس السيسي لفعل ما يشاء في الداخل تحت غطاء شعارات من قبيل: «مكافحة الإرهاب والحفاظ على الاستقرار ومنع البلاد من أن تصبح بؤرة أخري يتدفق خلالها ملايين اللاجئين عبر البحر إلى أوروبا» .
وإن كانت السلطة الساداتية قبل عقود قد امتلكت ترف التراجع عن قراراتها، و تأجيل خططها في الاندماج تمامًا في السوق العالمي قليلًا أو كثيرًا، فإن السلطة الحالية تبدو أقل قدرة – ورغبة – في تراجع من هذا النوع، و بالأخذ في الاعتبار التصريحات التي تخرج بين الحين والآخر مشيدة بوعي الشعب – في إشارة إلى انعدام التحركات الشعبية في وجه المسار الاقتصادي الحالي – هذا طبعا ما لم تتطور الاحتجاجات إلى مستويات تجبر الحكومة على التراجع.
حتى الآن ما تزال الاحتجاجات صغيرة الحجم، هادئة وخجولة، بلا مطالب ذات طابع سياسي، و سيتحدد مسارها ونتائجها بناء على طبيعة معالجة السلطة لها، وقدرة المعارضة على التشابك معها لتنظيمها وتوجيهها، أو استغلالها لفتح ثغرة أخرى في المجال السياسي المُحكم، وربما يمكن هنا استدعاء حالة تيران وصنافير، التي وإن كانت السلطة حينها قد نجحت في تقويض حراكها الشعبي، فإنها قد تمكنت من خلق حالة أدت في النهاية إلى استصدار حكم قضائي بإبطال قرار السلطة وإيقاعها في حرج شديد، في نظر المراقبين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق